تمثل رواية "الشوك والقرنفل"، التي كتبها يحيى السنوار من داخل سجن بئر السبع عام 2004، عملاً أدبيًا استثنائيًا لمقاتل وقائد بارز في حركة حماس. الرواية تتناول قضايا الفلسطينيين برؤية أدبية معاصرة، تتضمن مشاهد حية لصراعاتهم وأملهم وتضحياتهم. وتكمن قوة العمل الأدبي في كونه يخرج من خلف قضبان الأسر، ويعكس بعمق الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال من منظور كاتب عاش التجربة بواقعية.
موجز عن الرواية وشخصياتها المحورية
تدور أحداث رواية "الشوك والقرنفل" حول حياة عائلة فلسطينية تعيش في مخيم الشاطئ بغزة، وهي تجربة شخصية تجمع بين الواقع والخيال لتوثيق تاريخ الفلسطينيين منذ نكسة 1967 حتى بداية انتفاضة الأقصى. شخصية الراوي، أحمد، تلعب دورًا محوريًا في السرد، حيث يروي قصة عائلته والصراعات التي واجهتها. وقد كان لإبراهيم، ابن عم أحمد، الدور الأبرز؛ إذ يمزج بين العمل الوطني والعمل اليومي لتأمين عيش عائلته. شخصيات مثل "أم محمود" و"محمود" و"حسن" تشكل روابط تفاعلية تعكس التباين الفكري والسياسي داخل المجتمع الفلسطيني.
كما تقدم الرواية شخصية "أم محمود" كرمز للأم الفلسطينية، المرأة الصابرة التي فقدت زوجها في نكسة 1967 وتكفلت بتربية أبنائها رغم قسوة الظروف. تعكس الرواية، عبر تفاصيل معاناتها اليومية، صورة الأمهات الفلسطينيات وتضحياتهن، ما يمنح السرد بعدًا إنسانيًا ومعنويًا قويًا.
قضية اللجوء: التحدي والأمل
منذ السطور الأولى، يركز السنوار على معاناة اللاجئين، ويصور بواقعية الحياة في مخيمات غزة وظروفها القاسية. يصف أحد مشاهد الشتاء الباردة، حيث تجتمع مياه الأمطار في تشققات المنزل المبني من الزينكو، قائلًا: "تضع والدتي أواني فخارية وأوعية ألومنيوم لتجمع المياه المتساقطة، فتصل رذاذات المياه إلى وجهي، فيستيقظ النوم الذي يغفو على صوتها المزعج، لتنهض والدتي وتستمر في جمع المياه لتخلصنا من المشهد المتكرر كل شتاء." هذه المشاهد تؤكد معاناة اللاجئين الفلسطينيين، وتبرز حرمانهم من الحياة الكريمة والظروف الصعبة التي يواجهونها في مخيماتهم.
القدس والمسجد الأقصى في الرواية
يستحضر السنوار القدس بكل شوق وحب، ويصفها كجزء لا يتجزأ من ذاكرة الراوي. "كانت قبة الصخرة المشرفة بألوانها الزاهية تتربع فوق تلك التلة المرتفعة، حيث تصعد إليها عبر الدرجات الحجرية، تقدمنا حتى وصلنا باب المسجد الأقصى المبارك، شعور من الخشوع والرهبة انتابني وأنا أخطو خطواتي الأولى داخل المسجد." هذا المقطع يعكس قوة الإحساس الوطني والروحي لدى الراوي، ويجسد تعلق الفلسطينيين بأرضهم ومقدساتهم.
العملاء... وخطر الخيانة على القضية الفلسطينية
تسلط الرواية الضوء على قضية العملاء وتصفهم كخطر داخلي يمزق المجتمع الفلسطيني. منذ الطفولة، يتعرض الراوي لمشهد إعدام عميل، "لم أكن أفهم لماذا يُقتل هذا الرجل، لكنهم أخبروني أنه خان وطنه وكان سببًا في استشهاد زملائنا." من خلال هذا المشهد، يبيّن الكاتب موقفه الراسخ من ضرورة القضاء على العملاء وحماية المجتمع من خطر الخيانة.
تجربة السجن والتحقيق القاسي
باعتباره سجينًا سابقًا، يصوّر السنوار حياة المعتقلين الفلسطينيين ومعاناتهم داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي. في أحد الفصول، يصف الراوي تعرضه للتعذيب الجسدي والنفسي أثناء التحقيق، قائلاً: "أدخلوني إلى غرفة محصنة، وجدت نفسي محاطًا بستة من المحققين. أحدهم دفعني بقوة، وأحسست بخرز القيد يخترق جلدي، وآخر يقف على بطني، يدهسني بقدميه." هذا الوصف الدقيق يعكس واقعية التجربة ويبرز قسوة التحقيق في سجون الاحتلال.
الوعي الإسلامي وتنامي التيار الإسلامي في فلسطين
في الرواية، يظهر تحول تدريجي في المجتمع الفلسطيني مع تنامي الوعي الإسلامي، حيث يبرز دور "الشيخ أحمد" كمرشد للشباب الفلسطيني، إذ يجمع بين الدعوة الدينية والنضال الوطني. يقول الراوي عن هذا التغيير: "لم تعد المحاضرات الدينية مجرد دروس في الفقه والشريعة، بل أصبحت مزيجًا من التوعية الدينية والوطنية." ويشير الكاتب إلى أن هذا الوعي الجديد أحدث تغيرات كبيرة داخل المجتمع الفلسطيني، خاصةً مع بروز التيار الإسلامي في غزة والضفة الغربية.
الانتفاضة الأولى: ذاكرة لا تُنسى
تحتل الانتفاضة الأولى مكانة هامة في الرواية، ويصف الراوي أحداث اندلاعها في ديسمبر 1987 بعد حادثة قتل العمال الفلسطينيين. "بينما كانت الحافلة تقلنا، ظهرت قاطرة ضخمة على الجهة الأخرى من الطريق، تقودها أيدي احتلالية بلا رحمة، اصطدمت بقوة وأودت بحياة عدد منا." بعد هذا الحدث، تتصاعد الأحداث ليخرج الفلسطينيون في مظاهرات غاضبة، حيث تتحول الانتفاضة إلى رمز للصمود الشعبي أمام آلة القمع الإسرائيلية.
الخلافات حول عملية السلام داخل البيت الفلسطيني
تناقش الرواية انعكاسات عملية السلام على العائلة الفلسطينية، إذ تبرز الخلافات بين محمود، الذي يرى في السلام حلاً للقضية، وبين بقية إخوته الذين يعتبرون المقاومة السبيل الوحيد للتحرير. هذه المناقشات العائلية تعكس الانقسام داخل المجتمع الفلسطيني حول القضية، حيث يقول أحد الأبطال في الرواية: "عملية السلام لن تكون سوى خيانة للدماء التي أُريقت في سبيل الأرض." هذا الانقسام يعكس التوترات الفكرية التي عرفها الفلسطينيون منذ توقيع اتفاقية أوسلو.
استشهاد البطل: النهاية الحتمية لمقاوم
في نهاية الرواية، يصل الراوي إلى لحظة فقدان البطل، إذ يتعرض إبراهيم لقصف من طائرات الأباتشي، ويصف المشهد الختامي: "ارتفع دوي الانفجار، وتطايرت شظايا الشهيد في الهواء، لتحملها الرياح بعيدًا عن المكان. كان الحشد يتوافد من كل حدب وصوب، رافعين الرايات الخضراء، والفراء، والسوداء، جميعهم يصطفون في صفوف لا نهاية لها، في وداع بطلٍ لم يتوانَ يومًا عن حب الأرض." هذا المشهد يبرز نهاية البطل كرمز للتضحية والصمود، ويؤكد على أهمية الشهادة في سبيل القضية الفلسطينية.
تقييم الرواية من منظور أدبي وتاريخي
تميزت رواية "الشوك والقرنفل" بأسلوبها الواقعي وبسردها الدقيق لأحداث تاريخية حية، حيث نجح السنوار في المزج بين الشخصيات الخيالية والأحداث الواقعية، مما أعطى للرواية طابعًا جاذبًا للقارئ وجعلها نافذة تطل على معاناة الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من أن بعض التفاصيل التاريخية قد تزيد من طول السرد، إلا أن الرواية نجحت في إبقاء القارئ متابعًا للأحداث بتسارعها وتتابعها.
تقدم "الشوك والقرنفل" تجربة قراءة ممتعة، حيث يرتبط القارئ عاطفيًا بشخصياتها، خاصة إبراهيم، الذي يجسد التحدي والأمل في سبيل التحرير. يظهر التزام الكاتب بتقديم سردٍ متماسكٍ ومتتابعٍ، ونجح في نقل القارئ بين فترات مختلفة من النضال الفلسطيني، ومشاهد تاريخية تثير مشاعر الوطنية والانتماء.
أهمية الأدب في التعبير عن القضية الفلسطينية
بهذه الرواية، يبرهن يحيى السنوار على أن الأدب قادر على أن يكون وسيلة قوية للتعبير عن الهوية الفلسطينية وعن معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. تظهر الرواية أن الأدب لا يقتصر على التسلية، بل يتعدى ذلك ليكون أداة مقاومة ورسالة للعالم. ومن خلال تقديم شخصية إبراهيم، يعرض السنوار قصة كفاح الشعب الفلسطيني بأبعادها المختلفة، ويجمع بين الرواية التاريخية والفكر المقاوم لتكون "الشوك والقرنفل" شهادة أدبية على النضال الفلسطيني.
ختامًا، تعدّ رواية "الشوك والقرنفل" ملحمة أدبية تخلّد صمود الفلسطينيين