📁 آخر الأخبار

رواية الدبابة: الفصل الرابع، لقاء البوعزاتي

 



لقاء البوعزاتي بماركة


حين قدم لي مساعدي ماركو ما زعم أنه صديقه المنحدر من بلد اسمه المغرب، لم تتح لي فرصة زيارته ولا حتى السماع عنه، وكان اسمه البوعزاتي. كنت أعتقد أنه رئيس فرقة مسلحة تخوض حربًا في بلده، وأنه بصدد البحث عن أسلحة لرجاله لخوض حرب ضد دولته أو ضد فريق خصم له. بعد ربع ساعة من اللقاء، اعتقدت أن هذا البوعزاتي ليس سوى سبب من الأسباب التي يبعثها يسوع لأتباعه لإفساد لحظة سعادة مطلوبة في حانة من حانات تالين الجميلة، وذلك عقابًا لهم بسبب الآثام والخطايا التي يرتكبونها، أو لعدم شكرهم الرب في كنائسه وبين حضرة خدامه الرهبان.

تحدث الرجل عن حلم مشترك بينه وبين صديق له اسمه حميد، حلم الحصول على دبابة لا غير، بدون هدف وبدون رهانات. ابتدأ بصنعها في مرحلة طفولتهما من بقايا كارتون مهمل في حاوية مصنع، يثبتان على واجهتها خرطومًا بلاستيكيًا كمدفع ويلجان قمرتها للتجسس على جيرانهما وعلى نساء الدوار والفتيات في سنهما.

كاد اللقاء بالبوعزاتي أن يتحول إلى جريمة. في بداية حديثه اكتشفت أن الرجل لا علاقة له بطينة الزبناء الذين يقصدونني. اعتقدت أنه عميل من الوشاة جرى دسه في طريقي للإيقاع بي، وفي مثل هذه الحالات، يكون الحل دائمًا هو سحب المسدس من مخبئه بين الساق والجورب، وإطلاق رصاصة في جبينه بين عينيه بالضبط. تريثت قليلًا، في انتظار أن تخلو الحانة من الزبناء كي يكون لنا، أنا وفيليب، الفرنسي الذي يسير الحانة، فرصة للتخلص من الجثة ومسح آثارها.

كثيرًا ما قتلت عملاء مثل البوعزاتي. في ذلك رسالة مني إلى عصابة الشرطة التي تريد أن تتحكم وحدها في إستونيا وفي العاصمة تالين بالضبط. وهي عمليات استوعبتها وكفت عن التحرش بي منذ ما يزيد عن السنتين، فكيف لها أن تتجرأ وترسل لي هذا المغربي البليد ليستدرجني ولينجح فيما فشل فيه أبوكو زعيم كارتيل مخدرات كبير في الأرجنتين تم استتابته من طرف دولته، وأرسلته إلى مخابرات إستونيا ليوقع بي؟

حين فجرت رأس أبوكو برصاصة، والتصق جزء من مخه على خد فيليب الفرنسي، توصلت من الزعيم الجديد للكارتيل الذي كان يديره برسالة شكر مصحوبة بقطعة صغيرة من الكوكايين الجيد وبالعلم الوطني للأرجنتين.

علقت العلم على زجاج سيارتي الفخمة، في إشارة إلى الشرطة بأنني توصلت برسالتها. وهي إشارة فهمتها بعد ثلاثة أيام حين عثروا على جثة أبوكو في نهاية مجاري المياه العادمة على الشاطئ الصخري لبحر البلقان.

وأنا أفكر في سحب المسدس، التقت عيناي بعيني البوعزاتي.

شيء في داخلي اهتز لبريقهما، وجعلني أتأخر في الإجهاز عليه.

صوت داخلي أخبرني بأن الرجل، وإن لم يكن صادقًا، فلا علاقة له بجهاز الشرطة هنا في تالين، مما دفعني للإمعان في الاستماع إليه، ومحاولة البحث عما يحركه، وما هي دوافعه، وماذا يريد بالضبط.

حدثني عن صديق طفولته، حميد، الذي أصبح الآن صحفيًا كبيرًا في بلده، وكيف نسجا حلمهما منذ أن كانا طفلين، حين صنعا دبابة من ورق الكارتون. كيف افترقا ذات نتائج لامتحانات شهادة دراسية، وكيف سافر البوعزاتي هذا إلى شمال بلده، ثم كيف هاجر بشكل غير شرعي إلى إسبانيا ثم إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي إلى أن وصل إلى إستونيا.

كان في حديثه طفلًا صغيرًا، بعينين يشع منهما ذكاء غريب، ويشع منهما حب اتجاه صديقه يشفع له كي أصدقه، وأمتنع عن قتله.

وجدت نفسي أجاريه فيما يريد، وأناقش معه طلبه في تمكينه من اقتناء دبابة سيعمل على إيصالها إلى حدود بلده ليسلمها إلى صديقه حميد، ويحقق بذلك حلمهما.

لا أفهم اللغة التي يتحدث بها صديقه حميد في فيديوهات يوتيوب التي أراني إياها، لكن بدا لي حميد هذا رجلًا صادقًا بدوره، بملامحه القمحية وبالشرر الذي يقفز من عينيه. إنه في مواجهة مع سلطة تفوقه قوة، لكنه يفوقها حجة ومنطقًا، وهذا وحده كافٍ لإقناعي بتمكينهما من الدبابة.

الذين يحاربون بصدق هم أكثر الناس صدقًا في صفقات اقتناء السلاح، وهم أيضًا الأكثر ضمانًا للأداء. الصدق والحرب مرتعان جيدان لسوق السلاح.

حينها اصطحبته إلى مقلع في ملكية عائلتنا تحول إلى مرآب خاص بالدبابات والمدرعات والرشاشات المحمولة، الخفيف منها والثقيل.

في المسافة الفاصلة بين الطريق المعبد والمقلع، وهي مسلك وسط الغابة بكثير من الالتواءات والمنعرجات، موزع بين منحدرات حادة وعقبات مرهقة ومتعبة. في هذا المسلك انقطعت أنفاس البوعزاتي وهو لا يعلم أنها ليست فقط طريقًا نحو المقلع بل مصفاة يتأكد فيها رجالي المنتشرون على طولها بأن الزبون غير مراقب، وأن لا أحد يقتفي أثره.

كان نجاحه في المرور بسلام عاملًا آخر عزز ثقتي به.

حين وصوله إلى حيث تركن الدبابات، أصيب بالدهشة. بعينين جاحظتين وفم فاغر حاول أن يطرح ألف سؤال في صيغة واحدة، لم يكن يعرف ما يريد. في مخيلته دبابة كرتونية لا علاقة لها بما أبيعه في مخزوني الغابوي. لا معلومات تقنية لديه حول الدبابات، لا أسماؤها ولا خصائصها ولا أشكال استعمالها.

قصد مباشرة دبابة الغوستاف الألمانية وعبر عن رغبته في اقتنائها وإدخالها إلى المغرب. وحتى لا أضيع الوقت في نقاش عقيم عن استحالة تنقلها من المرآب نحو العاصمة في إستونيا، فما بالك نقلها إلى خارج القارة الأوروبية وإدخالها إلى بلد لا يتوفر حتى على طرقات تسير عليها السيارات، فما بالك بدبابة تحتاج إلى 250 رجلًا لتفكيكها وإعادة تركيبها لتتمكن من السير، حتى لا أضيع هذا الوقت أخبرته أن الغوستاف الألمانية ليست للبيع، وأنها مفخرة العائلة التي لا يمكن التفريط فيها.

تجولنا بين دبابات عديدة، وحاولت إقناعه باقتناء الدبابة بورش يزل وهي بدورها من صنع ألماني، وتتميز كونها أصغر دبابة لا يتعدى طولها 3.6 أمتار، ووزنها لا يتعدى 2.8 طن، ولها قمرة صغيرة تسع فردين، أي للبوعزاتي وصديقه حميد.

كانت بورش يزل تستجيب لمتطلب حلمهما، لكن البوعزاتي كان له رأي آخر...

بعد اقتناعه باستحالة اقتنائه للغوستاف، حاول اختيار دبابة أخرى، دبابة كبيرة وليست صغيرة مثل التي اقترحتها عليه.

عبد العزيز العبدي
عبد العزيز العبدي
تعليقات