لا أدري لم تريد أن تتملص من إنجازك العظيم؟
كان حلمًا سكننا سويًا منذ الطفولة، حين فتحنا أعيننا على شساعة الأرض التي أنجبتنا، وعلى خصوبتها وغناها، وفي الوقت نفسه على جوعنا وبؤسنا وفقر والدينا.
ذكريات الدبابة الكارتونية
كنا نعدو نحو مصنع الورق المقوى، الذي يبعد عن الدوار ببضعة كيلومترات، لنلتقط من حاوية قمامته الكبيرة قطع الكارتون المرمية بشكل عشوائي، قبل أن تصل جحافل مالكي العربات، التي تجرها البغال، لتفرغ الحاوية وتتوجه نحو المركز الحضري القريب. كنا نأخذ قطع الكارتون الكبيرة والمتينة، ونقتطع الغراء من تحت لحاء شجر الكاليبتوس، لنبدأ لصق الأشكال الهندسية التي صممناها سويًا. كنا ندعمها بصواري خشبية صغيرة تُشكل هيكلها المتين القادر على حمل جسدينا.
تحت الهيكل المغلف بالكرتون، ثبّتنا قناني بلاستيكية مخصصة للماء المعدني، بعد أن حشوْناها بالطين المبلل الذي يجف في أحشائها ليعطيها صلابة، ويحيلها إلى عجلات تمنح الحركة للدبابة التي صنعناها.
كانت فكرة فوهة الدبابة فكرتك الجهنمية، حين استيقظت ذات صباح ماطر وتوجهت إلى أحد الحقول، واقتطعت بشفرة منشار صدئة قطعة من أنبوب بلاستيكي مخصص للري، وثبّته في مقدمة العلبة الكارتونية. اختيارك اليوم الماطر لم يكن عبثًا، فقد اعتاد سكان الدوار على رؤية الدبابة ولم يربطوا بينها وبين الأنبوب المختفي، ونجونا من شبهة الاتهام والعقاب.
قمرة القيادة وذكريات الطفولة
لحظة جلوسنا في قمرة القيادة كانت تشعرنا بفرح طفولي غامر، وكأننا نخبئ بين ضلوعنا غضبًا لا ندري سببه، أو كأننا نبحث عن عدو وهمي ننتقم منه.
كنا نتلصص من داخل مقطورة الدبابة على نساء الدوار، نسترق السمع أحيانًا وهنّ يسرن نحو فرن "رقية" الكهربائي، الذي كانت تضعه رهن إشارة النساء مقابل أن يوفرن لها أخبارًا عن خصوماتهن وعداواتهن. وفي أحيان أخرى، كنت تراقب رشيدة، ابنة الحاج بوشعيب، وهي تقفز على الحبل، تنورتها تهتز للأعلى لتكشف عن فخذيها. الآن، وأنا في الأربعين من عمري، أطرح سؤالًا ساخرًا: هل كنت تشتهيها وعمرك لم يتجاوز السابعة؟
نهاية الأحلام الطفولية
كبرنا وغابت أحلامنا في غفلة من الزمن. في سن السادسة عشرة، لم نعد نصنع الدبابات الورقية، ولم نعد نجتمع في قمرة القيادة.
عندما أعلنت نتائج الباكلوريا، كنت من الناجحين المتفوقين، فيما رسبت أنا. كان الأمر متوقعًا بالنظر لاجتهادك واهتمامك بالدراسة، وعدم انتباهي وانشغالي بتجارة والدي البسيطة. أدركت حينها أن مسارينا قد افترقا.
قررت ليلتها أن أترك الدوار، لا لشيء سوى لأنني لم أستطع مواجهة نجاحك وفشلي. تسللت ليلًا، بينما كان الجميع يحتفل بنجاحك، ورحلت حاملًا في داخلي شرودًا وضياعًا. لكن حلمنا المشترك بالدبابة كان الشيء الوحيد الذي لم أتخلَّ عنه.
الرحيل والانغماس في متاهات الحياة
وصلت إلى مدينة طنجة، حيث عملت في مهن كثيرة، إلى أن تمكنت من الهجرة إلى أوروبا. هناك، وسط متاهات الحياة والغربة، حاولت نسيان الدوار والوطن. لكن ذكريات طفولتنا المشتركة والدبابة الكارتونية وفوهة المدفع البلاستيكية كانت تلاحقني، كجرح أحيانًا وكوردة أمل أحيانًا أخرى.
الحنين والذكريات الباقية
اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، تتدفق ذكريات الطفولة كالنهر. أتساءل: هل ما زلت تتذكر تلك الأحلام؟ أم أنك أصبحت أسير حياة المدينة، كما أصبحت أنا أسير الغربة؟ مهما اختلفت مساراتنا، ستظل الدبابة الكارتونية رمزًا لطفولتنا، لحلم بريء شاركناه في زمن لم نكن نملك فيه شيئًا سوى خيالنا الجامح.